جوهرة مسقط
3rd July 2010
مدونة القبطان صالح الجابري،
إنه لرائع جدا أن نكون في سنغافورة بعد هذه الرحلة الشاقة.
وإنه لشرف عظيم لي أن أكون قبطانا لهذه السفينة “جوهرة مسقط” وهي تمخر عباب المحيط الهندي من مسقط إلى سنغافورة، مقتفية أثر الطريق الذي سلكه أجدادنا منذ ألف ومائتي عام.
لقد وقع أفراد الطاقم في حب هذه السفينة، واعتنوا بها، واستمعوا إليها، وزاد تعلقهم بها يوما بعد يوم. لقد عرفوا صوت الرياح في أشرعتها، وأصوات حركة دفتها، وإيقاع الأمواج وهي تضرب بدنها.
لقد كانت هذه السفينة مطبخنا وسريرنا، ومكتبنا وغرفة دراستنا لحوالي خمسة أشهر تقريبا.
وكانت حياتنا جميعا تعتمد عليها، في الأحوال الجوية المناوئة، وسط الأمواج العالية، والرياح العاتية.
لكنها لم تخذلنا. لقد فاجأتنا في مناسبات، وحيرتنا في مناسبات أخرى. لكنها أثبتت أنها مخلصة وصادقة بدرجة فاقت كل توقعاتنا، بل أنها قبل كل هذا وذاك، حافظت علينا وعلى حياتنا.
لقد زاد احترامنا وإجلالنا لأجدادنا ونحن على متنها، وتعلمنا كيف نبحر مهتدين بالنجوم، مثلما فعلوا قبل قرون عديدة.
شاهدنا من مقدمتها أوقات الغروب التي أذهلتنا روعتها وجمالها
بيد أن هدية الجوهرة الأكبر، على ما أعتقد، تكمن في أنها استطاعت، بجمالها وروعتها وغموضها، ووسط تحديات الرحلة وصعوباتها، أن تخلق عائلة جديدة تماما. وأقصد هنا العلاقات الحميمة التي نشأت على المستوى الشخصي.
فبالنسبة لنا، نحن أفراد طاقم “جوهرة مسقط”، كانت هذه الرحلة سببا في إقامة علاقة قوية وحقيقية مع أسلافنا الذين سبقونا في شق هذا الطريق مهتدين بالنجوم، بل والأكثر إنها جعلتنا نتواصل معهم، وبالتالي ازداد احترامنا لهم.
بل وربما الأهم، أنها أوجدت علاقات قوية فيما بيننا في الحاضر
عرفنا من البداية أن هذا المشروع يمثل مشروعا عالميا، حيث كان بيننا عمانيون وإيطاليون، وهنود، واستراليون، وسريلانكيون، وسنغافوريون، وماليزيون وبريطانيون وغيرهم.
لقد أكدت لنا هذه السفينة أن الحدود تذوب عندما يتعلق الأمر بالتواصل والصداقة بين الشعوب. إن أفراد هذا الطاقم أصبحوا مجموعة من الأخوة والأصدقاء الحقيقيين المخلصين. وأعتقد أنه كان من الحتمي أن يحدث ذلك بعد أربعة أشهر تقريبا قضيناها بين جدران هذه السفينة في ظروف عاشها أجدادنا في القرن التاسع الميلادي.
لكن هذه المجموعة أصبحت أسرة متحدة وربما أكثر من هذا.
لقد كانت الابتسامات تعلو وجوه مستقبلينا في كل ميناء توقفنا فيه. تلك الابتسامات تتحدث لغة عالمية واحدة. نعم، أعادتنا تلك الابتسامات إلى أوطاننا لتذكرنا بأحبائنا وعائلاتنا في وقت كانت المسافة بيننا وبينهم تقدر بآلاف الأميال.
إن هذه الرحلة كانت سببا في توحيد مجموعة من الغرباء في أسرة جوهرة مسقط. كما أنها أسرت قلوب الناس وعقولهم في كل أنحاء العالم.
على سبيل المثال، التقينا في جورج تاون بامرأة تبلغ من العمر سبعين عاما، وكانت مريضة منذ عدة أشهر. عندما سمعت عن جوهرة مسقط، تأثرت بشدة لدرجة أنها نهضت من سريرها لأول مرة منذ أسبوعين لتزورنا. ثم عادت لزيارتنا مرة أخرى، وشاركتنا طوال حفل التوديع، وظلت واقفة في الشمس لمدة ساعتين كاملتين لتودعنا وتتمنى لنا رحلة سالمة. تحدثت عن أنها تتمنى لقائنا في سنغافورة، وأتمنى أن تكون استطاعت المجيء اليوم. لقد أصبحت هي الأخرى جزءا من أسرة الجوهرة.
سأفتقد هذه السفينة الغالية على نفسي كثيرا. لقد كانت الأشهر القليلة الماضية صعبة وشاقة. هذه الرحلة وهذه السفينة حققت نموا كبيرا في روح كافة أفراد الطاقم وفي روحي أنا أيضا.
أود أن أتقدم بالشكر الجزيل لكافة أفراد الطاقم ولكل مؤيدينا في كل أنحاء العالم، كما أننا جميعا نود أن نتقدم بالشكر لجوهرة مسقط على الهدية الأبدية التي قدمتها لنا- إنها تلك العائلة الرائعة التي يصعب على المرء أن يصدق أن الجوهرة كانت سببا في تكوينها.
كما أود أن أشكر عددا من الأشخاص الآخرين الذين ساعدوا في تحقيق هذه الرحلة، وبذلوا الجهد لتعريف الناس بها ومن هؤلاء أشكر توم فوسمر وفريقه والسفيرة ليوثا المغيرية والسفير الشيخ حميد المعني ونيك سوالو وهيلين كيركبرايد وكريس بيجنز وسيمون جيليمور والأخ زكريا السعدي وفريق عمان للإبحار الذين ساعدونا بوسائل عديدة.
كما أود قبل كل شيء أن أعرب عن خالص الشكر والامتنان لمولاي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله ورعاه ولوزارة الخارجية العمانية على منحنا هذه الفرصة الثمينة التي لا تتكرر إلا مرة واحدة في العمر للقيام بهذه الرحلة وتنفيذ هذا المشروع الفريد الذي يهدف إلى تعزيز المعرفة الإنسانية والتفاهم والتواصل والمحبة بين الشعوب.
وعلى الرغم من أنه يصعب على قلوبنا أن نغادر جوهرة مسقط، إلا أنني أشعر بالفخر لأننا سنتركها في رعاية أيدي قادرة وحانية مع أصدقاؤنا في سنغافورة.